فصل: القسم الأول من ولاية الدروس والخوانق.

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ ابن خلدون المسمى بـ «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر» (نسخة منقحة)



.القسم الأول من ولاية الدروس والخوانق.

أهل هذه الدولة التركية بمصر والشام معنيون على القدم منذ عهد مواليهم ملوك بني أيوب بإنشاء المدارس لتدريس العلم والخوانق لإقامة رسوم الفقراء في التخلق بآداب الصوفية السنية في مطارحة الأذكار ونوافل الصلوات أخذوا ذلك عمن قبلهم من الدول الخلافية فيختطون مبانيها وتقفون الأراضي المغلة للإنفاق منها على طلبة العلم ومتدربي الفقراء وإن استفضل الريع شيئأ عن ذلك جعلوه في أعقابهم خوفا على الذرية الضعاف من العيلة واقتدى بسنتهم في ذلك من تحت أيديهم من أهل الرياسة والثروة فكثرت لذلك المدارس والخوانق بمدينة القاهرة وأصبحت معاشا للفقراء من الفقهاء والصوفية وكان ذلك من محاسن هذه الدولة التركية وآثارها الجميلة الخالدة.
وكنت لأول قدومي على القاهرة وحصولي في كفالة السلطان شغرت مدرسة بمصر من إنشاء صلاح الدين بن أيوب وقفها على المالكية يتدارسون بها الفقه ووقف عليها أراض من الفيوم تغل القمح فسميت لذلك القمحية كما وقف أخرى على الشافعية هنالك وتوفي مدرسها حينئذ فولاني السلطان تدريسها وأعقبه بولاية قضاء المالكية سنة ست وثمانين وسبعمائة كما ذكرت ذلك من قبل وحضرني يوم جلوسي للتدريس فيها جماعة من أكابر الأمراء تنويها بذكرى وعناية من السلطان ومنهم بجانبي وخطبت يوم جلوسي في ذلك الحفل بخطبة ألممت فيها بذكر القوم بما يناسبهم ويوفي حقهم ووصفت المقام وكان نصها:
الحمد لله الذي بدأ بالنعم قبل سؤالها ووفق من هداه للشكر على منالها وجعل جزاء المحسنين في محبته ففازوا بعظيم نوالها وعلم الإنسان الأسماء والبيان وما لم يعلم من أمثالها وميزه بالعقل الذي فضله على أصناف الموجودات وأجيالها وهداه لقبول أمانة التكليف وحمل أثقالها وخلق الجن والإنس للعبادة ففاز منهم بالسعادة من جد في أمثالها ويسر كلا لما خلق له من هداية نفسه أو إضلالها وفرغ ربك من خلقها وخلقها وأرزاقها وآجالها والصلاة على سيدنا ومولانا محمد نكتة الأكوان وجمالها والحجة البالغة لله على كمالها الذي رقاه في أطوار الاصطفاء وآدم بين الطين والماء فجاء خاتم أنبيائها وأرسلها ونسخ الملل بشريعته البيضاء فتميز حرامها من حلالها ورضي لنا الإسلام دينا فأتم علينا النعمة بإكمالها.
والرضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته المنسجمة وطلالها وليوث ملاحمه المشتهرة وأبطالها وخير أمة أخرجت للناس في توسطها واعتدالها وظهور الهداية والاستقامة في أحوالها صلى الله عليه وعليهم صلاة تتصل الخيرات باتصالها وتنال البركات من خلالها.
أما بعد فإن الله سبحانه لما أقر هذه الملة الإسلامية في نصابها وشفاها من أدوائها وأوصابها وأورث الأرض عباده الصالحين من أيدي غصابها بعد أن باهلت فارس بتاجها وعصابها وخلت الروم إلى تماثيلها وأنصابها وجعل لها من العلماء حفظة وقواما ونجوما يهتدي بها التابع وأعلاما يقربونها للدراية تبيانا وإفهاما ويوسعونها بالتدوين ترتيبا وإحكاما وتهذيبا لأصولها وفروعها ونظاما ثم اختار لها الملوك يرفعون عمدها ويقيمون صغاها بإقامة السياسة وأودها ويدفعون بعزائمهم الماضية في صدر من أرادها بكياد أو قصدها فكان لها بالعلم الظهور والانتشار والذكر السيار والبركات المخلدة والآثار ولها بالملوك العز والفخار والصولة التي يلين لها الجبار وبذل لعزة المؤمنين بها الكفار وتجلل وجوه الشرك معها الصغار ولم تزل الأجيال تتداول على ذلك والأعصار والدول تحتفل والأمصار والليل يختلف والنهار حتى أظلت الإسلام دول هذه العصابة المنصورة من الشرك الماحين بأنوار أسنتهم ظلم الضلالة والشك القاطعين بنصالهم المرهفة علائق المين والإفك المصيبين بسهامهم النافذة ثغر الجهالة والشرك المظهرين سر قوله: «لا تزال طائفة من أمتي» فيما يتناولونه من الأخذ والترك ففسحوا خطة الإسلام وقاموا بالدعوة الخلافية أحسن القيام وبثوها في أقصى التخوم من الحجاز والشام واعتمدوا في خدمة الحرمين الشريفين ما فضلوا به ملوك الأنام واقتعدوا كرسي مصر الذي ألقت له الأقاليم يد الاستسلام على قدم الأيام فزخر بها منذ دولتهم بحر العمران وتجاوبت فيها المدارس بترجيع المثاني والقرآن وعثرت المساجد بالصلوات والأذان تكاثر عدد الحصى والشهبان وقامت المآذن على قدم الاستغفار والسبحان معلنة بشعار الإيمان وازدان جوها بالقصر فالقصر والإيوان فالإيوان ونظم دستها بالعزيز والظاهر والأمير والسلطان فما شئت من ملك يخفق العز في إعلامه وتتوقد في ليل المواكب نيران الكواكب من أسنته وسهامه ومن أسرة للعلماء تتناول العلم بوعد الصادق ولو تعلق بأعنان السماء وتنير سراجه في جوانب الشبه المدلهمة الظلماء ومن قضاة يباهون بالعلم والسؤدد عند الانتماء ويشتملون الفضائل والمناقب اشتمال الصماء ويفصلون الخصومات برأي يفرق بين اللبن والماء ولا كدولة السلطان الظاهر والعزيز القاهر يعسوب العصائب والجماهر ومطلع أنواع العز الباهر ومصرف الكتائب تزري بالبحر الزاخر وتقوم بالحجة للقسي على الأهلة في المفاخر سيف الله المنتضى على العدو الكافر ورحمته المتكفلة للعباد باللطف الساتر رب التيجان والأسرة والمنابر والأواوين العالية والقصور الأزاهر والملك المؤيد بالبيض البواتر والرماح الشواجر والأقلام المرتضعة أخلاف العز في مهود المحابر والفيض الرباني الذي فاق قدرة القادر وسبقت به العناية للأواخر سيد الملوك والسلاطين كافل أمير المؤمنين أبو سعيد أمده الله بالنصر المصاحب والسعد المؤازر وعرفه آثار عنايته في الموارد والمصادر وأراه حسن العاقبة في الأولى وسرور المنقلب في الآخر فإنه لما تناول الأمر بعزائمه وعزمه وآوى الملك إلى كنفه العزيز وحزمه أصاب شاكلة الرأي عندما سدد من سهمه وأوقع الرعايا في ظل من أمنه وعدل من حكمه وقسم البأس والجود بين حربه وسلمه ثم أقام دولته بالأمراء الذين اختارهم باختيار الله لأركانها وشد بهم أزره في رفع القواعد من بنيانها من بين مصرف لعنانها متقدم القدم على أعيانها في بساط إيوانها ورب مشورة تضيء جوانب الملك بلمعانها ولا يذهب الصواب عن مكانها ومنفذ أحكام يشرق الحق في بيانها ويضوع العدل من أردانها ونجي خلو في الهم الأعظم من شانها وصاحب فلم يفضي بالأسرار إلى الأسل الجرار فيشفي الغليل بإعلانها حفظ الله جميعهم وشمل بالسعادة والخيرات المبدأة المعادة تابعهم ومتبوعهم.
ولما سبحت في اللج الأزرق وخطوت من أفق المغرب إلى أفق المشرق حيث نهر النهار ينصب من صفحه المشرق وشجرة الملك التي أعز بها الإسلام تهتز في دوحه المعرق وأزهار الفنون تسقط علينا من غصنه المورق وينابيع العلوم والفضائل تمدو شلنا من فراته المغدق أو لوني عناية وتشريفا وغمروني إحسانا ومعروفا وأوسعوا بهمتي إيضاحا ونكرتي تعريفا ثم أهلوني للقيام بوظيفة السادة المالكية بهذا الوقف الشريف من حسنات السلطان صلاح الدين أيوب ملك الجلاد والجهاد وماحي آثار التثليث والرفض الخبيث من البلاد ومطهر القدس الشريف من رجس الكفر بعد أن كانت النواقيس والصلبان فيه بمكان العقود من الأجياد وصاحب الأعمال المتقبلة يسعى نورها بين يديه في يوم التناد فأقامني السلطان أيده الله لتدريس العلم بهذا المكان لا تقدما على الأعيان ولا رغبة عن الفضلاء من أهل الشان وإني موقن بالقصور بين أهل العصور معترف بالعجز عن المضاء في هذا القضاء وأنا أرغب من أهل اليد البيضاء والمعارف المتسعة الفضاء أن يلمحوا بعين الارتضاء ويتغمدوا بالصفح والإغضاء والبضاعة بينهم مزجاة والاعتراف من اللوم إن شاء الله منجاه والحسنى من الإخوان مرتجاة والله تعالى يرفع لمولانا السلطان في مدارج القبول أعماله ويبلغه في الدارين آماله ويجعل للحسنى والمقر الأسنى منقلبه ومآله ويديم على السادة الأمراء نعمته ويحفظ على المسلمين بانتظام الشمل دولتهم ودولته ويمد قضاة المسلمين وحكامهم بالعون والتسديد ويمتعنا بانفساح آجالهم إلى الأمد البعيد ويشمل الحاضرين برضوانه في هذا اليوم السعيد بمنه وكرمه.
وانفض ذلك المجلس وقد شيعتني العيون بالتجلة والوقار وتناجت النفوس بالأهلية للمناصب وأقيمت على الاشتغال بالعلم وتدريسه إلى أن سخط السلطان قاضي المالكية يومئذ نزعة من النزعات الملوكية فعزله واستدعاني للولاية في مجلسه وبين أمرائه فتفاديت من ذلك وأبى إلا إمضاءه وخلع علي وبعث معي من أجلسني بمقعد الحكم في المدرسة الصالحية في رجب ست وثمانين وسبعمائة فقمت في ذلك المقام المحمود ووفيت عهد الله في إقامة رسوم الحق وتحري المعدلة حتى سخطني من لم ترضه أحكام الله ووقع من شغب أهل الباطل والمراء ما تقدم ذكره.
وكنت عند وصولي إلى مصر بعثت عن ولدي من تونس فمنعهم سلطان تونس من اللحاق بي اغتباطا بمكاني فرغبت من السلطان يشفع عنده في شأنهم فأجاب وكتب رسالة بالشفاعة فركبوا البحر من تونس في السفين فما هو إلا أن وصلت مرسى الإسكندرية فعصفت بهم الرياح وغرق المركب بمن فيه وما فيه وذهب الموجود المولود فعظم الأسف واختلط الفكر وأعفاني السلطان من هذه الوظيفه وأراحني وفرغت لشأني من الاشتغال بالعلم تدريسا وتأليفا.
ثم فرغ السلطان من اختطاط مدرسته بين القصرين وجعل فيها مدافن أهله وعين لي فيها تدريس المالكية فأنشأت خطبة أقوم بها في يوم مفتتح التدريس على عادتهم في ذلك ونصها:
الحمد لله الذي من على عباده بنعمته وإيجاد خلقه وصرفهم في أطوار استعباده بين قدره ومراده وعرفهم أسرار توحيده في مظاهر وجوده وآثار لطفه في وقائع عباده وعرضهم على أمانة التكاليف ليبلوهم بصادق وعده وإبعاده ويسر كلا لما خلق له من هدايته أو إضلاله وغيه أو رشاده واستخلف الإنسان في الأرض بعد أن هداه النجيدين لصلاحه أو فساده وعلمه ما لم يكن يعلم من مدارك سمعه وبصره والبيان عما في فؤاده وجعل منهم أنبياء وملوكا يجاهدون في الله حق جهاده ويثابرون على مرضاته في اعتمال العدل واعتماده ورفع البيوت المقدسة بسبحات الذكر وأوراده.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد سيد البشر من نسل آدم وأولاده لا بل سيد الثقلين في العالم من إنسه وجنه وأرواحه وأجساده لا بل سيد الملائكة والنبيين الذي ختم الله كمالهم بكماله وآمادهم بآماده الذي شرف به الأكوان فأضاءت أرجاء العالم لنور ولاده وفصل له الذكر الحكيم تفصيلا كذلك ليثبت فن فؤاده وألقى على قلبه الروح الأمين بتنزيل رب العالمين ليكون من المنذرين لعباده فدعا إلى الله على بصيرة بصادق جداله وجلاده وأنزل عليه النصر العزيز وكانت ملائكة السماء من إمداده حتى ظهر نور الله على رغم من رغم بإطفائه وإخماده وكمل الدين الحنيف فلا تخشى والحمد لله غائلة انقطاعه ولا نفاذه ثم أعد له من الكرامات ما أعد في معاده وفضله بالمقام المحمود في عرصات القيامة بين أشهاده وجعل له الشفاعة فيمن انتظم في أمته واعتصم بمقاده.
والرضى عن آله وأصحابه غيوث رحمته وليوث إنجاده من ذوي رحمه الطاهرة وأهل وداده المتزودين بالتقوى من خير أزواده والمراغمين بسيوفهم من جاهر بمكابرة الحق وعناده وأراد في الدين بظلمه وإلحاده حتى استقام الميسم في دين الله وبلاده وانتظمت دعوة الإسلام أقطار العالم وشعوب الأنام من عربه وعجمه وفارسه ورومه وتركه وأكراده صلى الله عليه وعليهم صلاة تؤذن باتصال الخير واعتياده وتؤهل لاقتناء الثواب وزياده وسلم كثيرا وعن الأئمة الأربعة علماء السنة المتبعة والفئة المجتباة المصطنعة وعن إمامنا من بينهم الذي حمل الشريعة وبينها وحرر مقاصدها الشريفة وعينها وتعرض في الآفاق منها والمطالع بين شهبها اللوامه فزينها نكتة الهداية إذا حقق مناطها وشرط التحصيل والدراية إذا روعيت أشراطها وقصد الركاب إذا ضربت في طلب العلم آباطها عالم المدينة وإمام هذه الأمة الأمينة ومقبس أنوارالنبوة من مشكاتها المبينة الإمام مالك بن أنس ألحقه الله برضوانه وعرفنا بركة الاقتداء بهديه وعرفانه وعن سلف المؤمنين والمهتدين وتابعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فإن الخلق عيال الله يكنفهم بلطفه ورحمته ويكفلهم بفضله ونعمته وييسرهم لأسباب السعادة بآداب دينه وشرعته ويحملهم في العناية بأمورهم والرعاية لجمهورهم على مناهج سنته ولطائف حكمته ولذلك اختار لهم الملوك الذين جبلهم على العدل وفطرته وهداهم إلى التمسك بكلمته ثم فضلهم بما خولهم من سعة الرزق وبسطته واشتقاق التمكين في الأرض من قدرته فتسابقوا بالحيرات إلى جزائه ومثوبته وذهبوا بالدرجات العلى في وفور الأجر ومزيته.
وإن مولانا السلطان الملك الظاهر العزيز القاهر العادل الطاهر القائم بأمور الإسلام عندما أعيا حملها الاكتاد وقطب دائرة الملك الذي أطلع الله من حاشيته الأبدالا وأنبت الأوتاد ومنفق أسواق العز بما بذل فيها من جميل نظره المدخور والعتاد رحمة الله الكافلة للخلق ويداه المبسوطتان بالأجل والرزق وظله الواقي للعباد بما اكتنفهم من العدل والحق قاصم الجبابرة والمعفي على آثار الأعاظم من القياصرة وذوي التيجان من التبابعة والأكاسرة أولي الأقيال والأساورة وحائز قصب السبق في الملوك عند المناضلة والمفاخرة ومفوض الأمور بإخلاصه إلى ولي الدنيا والآخرة مؤيد كلمة الموحدين ورافع دعائم الدين وظهير خلافة المؤمنين سلطان المسلمين أبو سعيد صدق الله فيما يقتفي من الله ظنونه وجعل النصر ظهيره كما جعل السعد قرينه والعز خدينه وكان وليه على القيام بأمور المسلمين ومعينه وبلغ الأمة في اتصال أيامه ودوام سلطانه ما يرجونه من الله ويؤملونه لما قلده الله هذا الأمر الذي استوى له على كرسي الملك وانتظمت عقود الدول في لبات الأيام وكانت دولته واسطة السلك وجمع له الدين بولاية الحرمين والدنيا بسلطان الترك وأجرى له أنهار مصر من الماء والمال فكان مجازه فيها بالعدل في الأخذ والترك وجمع عليه قلوب العباد فشهد سرها بمحبه الله له شهادة خالصة من الريب بريئة من الشك حتى استولى من العز والملك على المقام الذي رضيه وحمده ثم تاقت نفس إلى ما عند الله فصرف قصده إليه واعتمده وسارع إلى فعل الخيرات بنفس مطمئنة لا يسأل عليها أجرا ولا يكدرها بالمنة وأحسن رعاية الدين والملك تشهد بها الأنس والجنة لا بل النسم والأجنة ثم آوى الخلق إلى عدله تصديقا بأن الله يؤوه يوم القيامة إلى ظلاله المستجنة ونافس في اتخاذ المدارس والربط لتعليم الكتاب والسنة وبناء المساجد المقدسة يبني له بها الله البيوت في الجنة والله لا يضيع عمل عامل فما أظهره أو أكنه.
وإن ما أنتجته قرائح همته وعنايته وأطلعته آفاق عدله وهدايته ووضحت شواهده على بعد مداه في الفخر وغاليه ونجح مقاصده في الدين وسعايته هذا المصنع الشريف والهيكل الهمم البشرية ترتيبه ورصفه لا! بل الكلم السحرية تمثيله ووصفه وشمخ بمطاولة السحب ومناولة الشهب مارنه العزيز وأنفه وازدهي بلبوس السعادة والقبول من الله عطفه إن فاخر بلاط الوليد كان له الفخار أو باهى القصر والإيوان شهد له المحراب والمنار أو ناظر صنعاء وغمدان قامت بحجته الآثار إنما هو بهو ملؤه دين وإسلام وقصر عليه تحية وسلام وفضاء رباني ينشأ في جوه للرحمة والسكينة ظلة وغمام وكوكب شرق يضاحك وجه الشمس منه ثغر بسام دفع إلى تشييد أركانه ورفع القواعد من بنيانه سيف دولته الذي استله من قراب ملكه وانتضاه وسهمه الذي عجم عيدان كنانته فارتضاه وحسام أمره الذي صقل فرنده بالعز والعزم وأمضاه وحاكمه المؤيد الذي طالب غريم الأيام بالأمل العزيز المرام فاستوفى دينه واقتضاه الأمير الأعز الأعلى جهركس الخليلي أمير الماخورية باسطبله المنيع حرسه الله من خطوب الأيام وقسم له من عناية السلطان أوفر الحظوظ والسهام فقام بالخطو الوساع لأمره المطاع وأغرى بها أيدي الاتقان والإبداع واختصها من أصناف الفعلة بالماهر الصناع يتناظرون في إجادة الأشكال منها والأوضاع ويتناولون الأعمال بالهندام إذا توارت عن قدرتهم بالامتناع فكأن العبقري يفري الفري أو العفاريت قدمت من أماريت وكأنما حشرت الجن والشياطين أو نشرت القهارمة من الحكماء الأول والأساطين جابوا لها الصخر بالأذواد لا بالواد واستنزلوا صم الأطواد على مطايا الأعواد ورفعوا سمكها إلى أقصى الآماد على بعيد المهوى من العماد وغشوها من الوشي الأزهر المضاعف الصدف والمرمر ومائع اللجين الأبيض والذهب الأحمر بكل مسهم الحواشي حالي الأبراد وقدروه مساجد للصلوات والأذكار ومقاعد للسبحات بالعشي والإبكار ومجالس للتلاوة والاستغفار في الآصال والأسحار وزوايا للتخلي عن ملاحظة الأسماع والأبصار والتعرض للفتوح الربانية والأنوار ومدارس لقدح زناد الأفكار ونتاج المعارف الأبكار وصوغ اللجين والنضار في محك القرائح والأبصار لتفجر ينابيع الحكمة في رياضه وبستانه وتتفتح أبواب الجنة من غرفه وإيوانه وتقتاد غر السوابق من العلوم والحقائق في طلق ميدانه ويصعد الكلم الطيب والعمل الصالح إلى الله من نواحي أركانه وتوفر الأجور لغاشيته محتسبة عند الله في ديوانه راجحة في ميزانه.
ثم اختار لها من أئمة المذاهب الأربعة أعيانا ومن شيوخ الحقائق الصوفية فرسانا تصفح لهم أهل مملكته إنسانا إنسانا وأشد بقدرهم عناية وإحسانا ودفعهم إلى وظائفه توسعا في مذاهب الخير وافتنانا وعهد إليهم برياضة المريدين وإفادة المستفيدين احتسابا لله وقربانا وتقيلا لمذاهب الملوك من قومه واستنانا ثم نظمني معهم تطولا وامتنانا ونعمة عظمت موقعا وجلت شانا وأنا وإن كنت لقصور البضاعة متأخرا عن الجماعة ولقعود الهمة عيالا على هؤلاء الأئمة فسمحهم يغطي ويلحف وبمواهب العفو والتجاوز يمنح ويتحف وإنما هي رحمة من مولانا السلطان أيده الله خصت كما عمت ووسمت أغفال النكرة والإهمال وسمت وكملت بها مواهب عطفه وجبره وتمت وقد ينتظم الدر مع المرجان وتلتبس العصائب بالتيجان وتراض المسومة العراب على مسابقة الهجان والكل في نظر مولانا السلطان وتصريفه والأهلية بتأهيله والمعرفة بتعريفه وقوام الحياة والآمال بلطائف إحسانه وصنوبه والله يوزعنا شكر معروفه ويوفقنا للوفاء بشرطه في هذا الوقف وتكليفه ويحمي حماه من غير الدهر وصروفه ويفيء على ممالك الإسلام ظلال أعلامه ورماحه وسيوفه ويريه قرة العين في نفسه وبنيه وحاشيته وذويه وخاصته ولفيفه عن الله وفضله.
ثم تعاون العداة عند أمير الماخورية القائم للسلطان بأمور مدرسته وأغروه بصدي عنها وقطع أسبابي من ولايتها ولم يمكن السلطان إلا إسعافه فأعرضت عن ذلك وشغلت بما أنا عليه من التدريس والتأليف.
ثم خرجت عام تسعة وثمانين وسبعمائة للحج واقتضيت إذن السلطان في ذلك فأسعف وزود هو وأمراؤه بما أوسع الحال وأرغده وركبت بحر السويس من الطور إلى الينبع ثم صعدت مع المحمل إلى مكة فقضيت الفرض عامئذ وعدت في البحر فنزلت بساحل القصير ثم سافرت منه إلى مدينة قوص في آخر الصعيد وركبت منها بحر النيل إلى مصر ولقيت السلطان وأخبرته بدعائي له في أماكن الإجابة وأعادني إلى ما عهدت من كرامته وتفيء ظله.
ثم شغرت وظيفة الحديث بمدرسة صلغتمش فولاني إياها بدلا من مدرسته وجلست للتدريس فيها في محرم أحد وتسعين وسبعمائة وقمت ذلك اليوم على العادة بخطبة نصها:
الحمد لله إجلالا وإعظاما واعترافا بحقوق النعم والتزاما واقتباسا للمزيد منها واغتناما وشكرا على الذي أحسن وتماما وسع كل شيء رحمة وإنعاما وأقام على توحيده من أكوانه ووجوده آيات واضحة وأعلاما وصرف الكائنات في قبضة قدرته ظهورا وخفاء وإيجادا وإعداما وأعطى كل شيء خلقه ثم هداه إلى مصالحه إلهاما وأودع مقدور قضائه في مسطور كتابه فلا يجد محيصا عنه ولا مراما والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد نبي الرحمة الهامية غماما والملحمة التي أراقت من الكفر نجيعا وحطمت أصناما والعروة الوثقى فاز من اتخذها عصاما أول النبيين رتبة وآخرهم ختاما وسيدهم ليلة قاب قوسين إذ بات للملائكة والرسل إماما وعلى آله وأصحابه الذين كانوا ركنا لدعوته وسناما وحربا على عدوه وسماما وبعلوا في مظاهرته جدا واعتزاما وقطعوا في ذات الله وابتغاء مرضاته أنسابا وأرحاما حتى ملأوا الأرض إيمانا وإسلاما وأوسعوا الجاحد والمعاند تبكيتا وإرغاما فأصبح ثغر الدين بساما ووجه الكفر والباطل عبوسا جهاما صلى الله عليه وعليهم ما عاقب ضياء ظلاما صلاة ترجح القبول ميزانا وتبوىء عند الله مقاما.
والرضى عن الأئمة الأربعة الهداة المتبعة مصابيح الأمان ومفاتيح السنة الذين أحسنوا بالعلم قياما وكانوا للمتقين إماما.
أما بعد فإن الله سبحانه تكفل لهذا الدين بالعلاء والظهور والعز الخالد على الظهور وانفساح خطته في آفاق المعمور فلم يزل دولة عظيمة الآثار غزيرة الأنصار بعيدة لصيت عالية المقدار جامعة بمحاسن آدابه وعزة جنابه معاني الفخار منفقة بضائع علومه في الأقطار مفجرة ينابيعها كالبحار مطلعة كواكبها المنيرة في الآفاق أضواء من النهار ولا كالدولة التي استأثرت بقبلة الإسلام ومنابره وفاخرت بحرمات الله وشعائره واعتمدت بركة الإيمان وأواصره واعتملت في إقامة رسوم العلم ليكون من مفاخره وشاهدا بالكال لأوله وآخره.
وإن مولانا السلطان الملك الظاهر العزيز القاهر شرف الأوائل والأواخر ورافع لواء المعالي والمفاخر رب التيجان والأسرة والمنابر والمجلي في ميدان السابقين من الملوك الأكابر في الزمن الغابر حامل الأمة بنظره الرشيد ورأيه الظافر وكافل الرعايا في ظله المديد وعدله الوافر ومطلع أنوار العز والسعادة من أفقه السافر واسطة السلك من هذا النظام والتاج المحلى في مفارق الدول والأيام سيد الملوك والسلاطين بركة الإسلام والمسلمين كافل أمير المؤمنين أبو سعيد أعلى الله مقامه وكافأ عن الأمة إحسانه الجزيل وأنعامه وأطال في السعادة والخيرات المبدأة المعادة لياليه وأيامه لما أوسع الدين والملك نظرا جميلا من عنايته وأنام الخلق في حجر كفالته ومهاد كفايته وأيقظ لتفقد الأمور وصلاح الخاصة والجمهور عين كلاءته كما قلده الله رعايتها وأقام حكام الشريعة والسياسة يوسعون نطاق الحق إلى غايته ويطلعون وجه العدل سافرا عن آيته ونصب في دست النيابة من وثق بعدله وسياسته ورضي الدين بحسن إيالته وأمنه على سلطانه ودولته وهو الوفي والحمد لله بأمانته ثم صرف نظره إلى بيوت الله يعنى بإنشائها وتأسيسها وبعمل النظر الجميل في إشادتها وتقديسها ويقرض الله القرض الحسن في وقفها وتحبيسها وينصب فيها لبث العلم من يؤهله لوظائفها ودروسها فيضفي عليه بذلك من العناية أفخر لبوسها حتى زهت الدولة بملكها ومصرها وفاخرت الأنام بزمانها الزاهر وعصرها وخضعت الأواوين لإيوانها العالي وقصرها فابتهج العالم سرورا بمكانها واهتزت الأكوان للمفاخرة بشأنها وتكفل الرحمن لمن اعتز به الإيمان وصلح على يده الزمان بوفور المثوبة ورجحانها.
وكان مما قد من به الآن تدريس الحديث بهذه المدرسة وقف الأمير صرغتمش من سلف أمراء الترك خفف الله حسابه وثقل في الميزان يوم يعرض على الرحمن كتابه وأعظم جزاءه في هذه الصدقة الجارية وثوابه عناية جدد لي لباسها وإيثارا بالنعمة التي صححت قياسها وعرفت منه أنواعها وأجناسها فامتثلت المرسوم وانطلقت أقيم الرسوم وأشكر من الله وسلطانه الحظ المقسوم وأنا مع هذا معترف بالقصور بين أهل العصور مستعيذ بالله وبركة هؤلاء الحضور السادة الصدور أن يجمح بي مركب الغرور أو يلج شيطان الدعوى والزور في شيء من الأمور والله تعالى ينفع مولانا السلطان بصالح أعماله ويعرفه الحسنى وزيادة الحظ الأسنى في عاقبته ومآله ويريه في سلطانه وبنيه وحاشيته وذويه مرة عينه ورضى آماله ويديم على السادة الأمراء ما خولهم من رضاه وإقباله ويحفظ المسلمين في هذا الأمر السعيد بدوامه واتصاله ويسدد قضاتهم وحكامهم لاعتماد الحق واعتماله بمن الله وإفضاله.